الزمان: شهر أكتوبر من العام ٢٠٠٥م.
المكان: قاعة (٢) بمقر اليونسكو بباريس.
الحدث: معركة كلامية حادة بين أوروبا، بقيادة فرنسا، من جهة وأمريكا، بقيادة إسرائيل من جهة أخرى.
الدعوة إلى «حماية وتعزيز التنوع الثقافي» هي ساحة المعركة، التي بدأت إرهاصاتها في شهر نوفمبر ٢٠٠١، أي بعد أحداث سبتمبر بشهرين فقط، نتج عنها صدور (إعلان اليونسكو العالمي بشأن التنوع الثقافي). ثم شهدتُ حضورياً، ضمن الوفد السعودي المشارك في المؤتمر العام لليونسكو ٢٠٠٣، استمرار المساعي الجادة للخروج بصيغة أكثر صرامةً من مجرد (إعلان)، فكانت بدايات التفكير في بناء (اتفاقية) لحماية التنوع الثقافي. اتفقت دول أوروبا الكبرى خصوصاً على بدء عمليات البناء، بأيدي الخبراء والمختصين، رغم احتجاج أمريكا وامتعاضها مما يجري لاستهداف «عولمتها» المربحة. لم يتشابكوا في النقاش لكنهم «تواعدوا» للعام ٢٠٠٥م!
وفي يوم بارد من عام ٢٠٠٥ كان النقاش الساخن يدفئ القاعة الثانية من مقر المنظمة الدولية. كانت المرة الأولى التي أشهد فيها مثل هذا الصراع الأيديولوجي بين قوى الغرب، بعد أن أشربتنا نظرية المؤامرة «المطلقة» أن الغرب كله على قلب رجل واحد! لم تكن الولايات المتحدة وإسرائيل ومعهما تشكيلة «مقبّلات» من دول الجُزُر التي لا تُرى في الخريطة، لكنّ لها صوتاً في المنظمة تماماً مثل صوت أمريكا وروسيا. لم يكن ذلك «المحور» يواجه تحالفاً أوروبياً تقوده فرنسا فقط، بل تشارك فيه أيضاً روسيا والصين والهند وبقية دول العالم المتضررة من هيمنة العولمة/الأمريكية.
بعد ساعات ممتدة من النقاش الحاد، والعنيف أحياناً، في جلسات تبدأ في العاشرة صباحاً وتمكث أحياناً حتى العاشرة مساءً، تعذّر التوصل إلى توافق على مسودة الاتفاقية المقترحة فكان لا بد من اللجوء إلى التصويت الذي أظهرت نتائجه فوز أوروبا على أمريكا، باعتماد (اتفاقية حماية وتعزيز أشكال التنوع الثقافي) التي ستحدّ، أو على الأقل تُقلّص من هيمنة المنتجات الأمريكية على أنساق العولمة الثقافية. ورُفعت الجلسة.
في أحد المقاهي الباريسية، مساء غدٍ، كنت ومجموعة من الأصدقاء نتحدث عن أن وجه اليونسكو سيتغير، من الآن. فالمنظمة الدولية التي تأسست بعد انقضاء الحرب العالمية الثانية عام ١٩٤٥، كانت رسالتها الأولى حينذاك ترميم أهداف التعليم باتجاه «بناء حصون السلام» للدول المتحاربة، وردم الفجوة التعليمية بين الشمال والجنوب من خلال تقليص جيوب الأمية. اشتغلت اليونسكو على ذلك الهدف من الخمسينيات حتى الثمانينيات، وفي التسعينيات أصبح واضحاً بأن كثيراً من دول العالم قد تجاوزت في تسارع تطويرها لتعليمها أدوات اليونسكو التقليدية في تطوير التعليم، فلم يعد هناك مسوّغ لأن تكون أجندة التعليم هي الأولوية في اليونسكو. بدءاً من العام ٢٠٠١ انطلقت مكينة الثقافة في صنع الإعلانات والاتفاقيات والتوصيات، بعد أن تباطأت منذ إقرارها اتفاقية حماية التراث العالمي عام ١٩٧٢، فكان من أهم الاتفاقيات الجديدة:
إعلان اليونسكو العالمي بشأن التنوع الثقافي، ٢٠٠١م
اتفاقية صون التراث الثقافي غير المادي، ٢٠٠٣
توصية بشأن تعزيز التعدد اللغوي، ٢٠٠٣
اتفاقية حماية وتعزيز أشكال التنوع الثقافي، ٢٠٠٥
في المدة من ٢٠٠٦ حتى مطلع ٢٠١٧ صرت أرقب «عن قرب» أجندات التنوع الثقافي والمحافظة على التراث الإنساني وهي تأخذ شيئاً فشيئاً موقعها المتقدم في أولويات اليونسكو، رغم المساعي الأمريكية المستمرة بمقاومة هذا التحول، والهرولة بين أروقة المنظمة لإقناع الدول الأعضاء بأن التعليم يجب أن يبقى هو الأولوية، وقد لا يكون هذا حبّاً في التعليم ولكن صَدّاً للثقافة.
ظلّت فرنسا تراقب بقلق المقاومة الأمريكية لنفوذ الملف الثقافي في المنظمة، وكانت تخبئ في يدها ورقة اللعب الأخيرة، التي قد تضطر لاستخدامها رغم مخالفتها للمبادئ العامة للمنظمة التي تتخذ فرنسا مقراً لها، بأن لا يكون رئيسها فرنسياً، وهو ما التزمت به فرنسا منذ تأسيسها قبل أكثر من سبعين عاماً.
وفي عام ٢٠١٧ قامت فرنسا، وبشكل مفاجئ لنا جميعاً، بتوجيه الضربة القاضية عندما دفعت بوزيرة الثقافة الفرنسية السابقة أودري أزولاي للترشح لرئاسة منظمة اليونسكو، ونجحت في الانتخابات. أعقب هذا الانتصار الفرنسي بقليل الانسحاب الأمريكي من منظمة اليونسكو «بسبب انحيازها ضد إسرائيل»، فخلت الساحة اليونسكيّة لطغيان الوجه الثقافي على ما سواه، لتتحول اليونسكو إلى بيت خبرة عالمي في «القوة الناعمة».
المملكة العربية السعودية لم تكن غافلة عن استشعار هذا التحول مبكراً، والاستثمار سريعاً في اندفاعات قاطرته قبل أن يزدحم أو يتباطأ. فكان الدخول في لائحة التراث العالمي لأول مرة في عام ٢٠٠٨، ولم يأت عام ٢٠١٨ إلا وقد سُجّلت خمسة مواقع آثار سعودية في اللائحة العالمية، بالإضافة إلى تسجيل مجموعة من العناصر الفردية أو المشتركة في لائحة التراث الثقافي الشفوي.
تُوّج هذا الوعي السعودي بتبدّل الأولويات في اليونسكو، بصدور القرار السامي مؤخراً بنقل ارتباط وأعمال (اللجنة الوطنية للتربية والثقافة والعلوم) من وزارة التعليم التي ظلت طوال ٥٥ عاماً المشرفة على أعمال منظمات اليونسكو والإيسيسكو والأليكسو، لتصبح الآن تحت مظلة وزارة الثقافة، وليصبح أول ثمار الحاضنة الجديدة للمنظمات الدولية هو الفوز الكاسح بعضوية المجلس التنفيذي ممثلةً بوزير الثقافة الأمير بدر الفرحان آل سعود، ثم بعد ذلك بأسبوع واحد فقط تحقق الفوز السعودي الأول بعضوية لجنة التراث العالمي.
إن حصد السعودية لعضوية المجلسين الأكثر أهمية ونفوذاً في اليونسكو (المجلس التنفيذي ولجنة التراث) يُثبت بأنها تعي تحولات المزاج العالمي، وتواكب النمو المتصاعد للقوة الناعمة في هذا العالم «الجديد».
* المندوب الدائم للسعودية لدى اليونسكو، سابقاً
المكان: قاعة (٢) بمقر اليونسكو بباريس.
الحدث: معركة كلامية حادة بين أوروبا، بقيادة فرنسا، من جهة وأمريكا، بقيادة إسرائيل من جهة أخرى.
الدعوة إلى «حماية وتعزيز التنوع الثقافي» هي ساحة المعركة، التي بدأت إرهاصاتها في شهر نوفمبر ٢٠٠١، أي بعد أحداث سبتمبر بشهرين فقط، نتج عنها صدور (إعلان اليونسكو العالمي بشأن التنوع الثقافي). ثم شهدتُ حضورياً، ضمن الوفد السعودي المشارك في المؤتمر العام لليونسكو ٢٠٠٣، استمرار المساعي الجادة للخروج بصيغة أكثر صرامةً من مجرد (إعلان)، فكانت بدايات التفكير في بناء (اتفاقية) لحماية التنوع الثقافي. اتفقت دول أوروبا الكبرى خصوصاً على بدء عمليات البناء، بأيدي الخبراء والمختصين، رغم احتجاج أمريكا وامتعاضها مما يجري لاستهداف «عولمتها» المربحة. لم يتشابكوا في النقاش لكنهم «تواعدوا» للعام ٢٠٠٥م!
وفي يوم بارد من عام ٢٠٠٥ كان النقاش الساخن يدفئ القاعة الثانية من مقر المنظمة الدولية. كانت المرة الأولى التي أشهد فيها مثل هذا الصراع الأيديولوجي بين قوى الغرب، بعد أن أشربتنا نظرية المؤامرة «المطلقة» أن الغرب كله على قلب رجل واحد! لم تكن الولايات المتحدة وإسرائيل ومعهما تشكيلة «مقبّلات» من دول الجُزُر التي لا تُرى في الخريطة، لكنّ لها صوتاً في المنظمة تماماً مثل صوت أمريكا وروسيا. لم يكن ذلك «المحور» يواجه تحالفاً أوروبياً تقوده فرنسا فقط، بل تشارك فيه أيضاً روسيا والصين والهند وبقية دول العالم المتضررة من هيمنة العولمة/الأمريكية.
بعد ساعات ممتدة من النقاش الحاد، والعنيف أحياناً، في جلسات تبدأ في العاشرة صباحاً وتمكث أحياناً حتى العاشرة مساءً، تعذّر التوصل إلى توافق على مسودة الاتفاقية المقترحة فكان لا بد من اللجوء إلى التصويت الذي أظهرت نتائجه فوز أوروبا على أمريكا، باعتماد (اتفاقية حماية وتعزيز أشكال التنوع الثقافي) التي ستحدّ، أو على الأقل تُقلّص من هيمنة المنتجات الأمريكية على أنساق العولمة الثقافية. ورُفعت الجلسة.
في أحد المقاهي الباريسية، مساء غدٍ، كنت ومجموعة من الأصدقاء نتحدث عن أن وجه اليونسكو سيتغير، من الآن. فالمنظمة الدولية التي تأسست بعد انقضاء الحرب العالمية الثانية عام ١٩٤٥، كانت رسالتها الأولى حينذاك ترميم أهداف التعليم باتجاه «بناء حصون السلام» للدول المتحاربة، وردم الفجوة التعليمية بين الشمال والجنوب من خلال تقليص جيوب الأمية. اشتغلت اليونسكو على ذلك الهدف من الخمسينيات حتى الثمانينيات، وفي التسعينيات أصبح واضحاً بأن كثيراً من دول العالم قد تجاوزت في تسارع تطويرها لتعليمها أدوات اليونسكو التقليدية في تطوير التعليم، فلم يعد هناك مسوّغ لأن تكون أجندة التعليم هي الأولوية في اليونسكو. بدءاً من العام ٢٠٠١ انطلقت مكينة الثقافة في صنع الإعلانات والاتفاقيات والتوصيات، بعد أن تباطأت منذ إقرارها اتفاقية حماية التراث العالمي عام ١٩٧٢، فكان من أهم الاتفاقيات الجديدة:
إعلان اليونسكو العالمي بشأن التنوع الثقافي، ٢٠٠١م
اتفاقية صون التراث الثقافي غير المادي، ٢٠٠٣
توصية بشأن تعزيز التعدد اللغوي، ٢٠٠٣
اتفاقية حماية وتعزيز أشكال التنوع الثقافي، ٢٠٠٥
في المدة من ٢٠٠٦ حتى مطلع ٢٠١٧ صرت أرقب «عن قرب» أجندات التنوع الثقافي والمحافظة على التراث الإنساني وهي تأخذ شيئاً فشيئاً موقعها المتقدم في أولويات اليونسكو، رغم المساعي الأمريكية المستمرة بمقاومة هذا التحول، والهرولة بين أروقة المنظمة لإقناع الدول الأعضاء بأن التعليم يجب أن يبقى هو الأولوية، وقد لا يكون هذا حبّاً في التعليم ولكن صَدّاً للثقافة.
ظلّت فرنسا تراقب بقلق المقاومة الأمريكية لنفوذ الملف الثقافي في المنظمة، وكانت تخبئ في يدها ورقة اللعب الأخيرة، التي قد تضطر لاستخدامها رغم مخالفتها للمبادئ العامة للمنظمة التي تتخذ فرنسا مقراً لها، بأن لا يكون رئيسها فرنسياً، وهو ما التزمت به فرنسا منذ تأسيسها قبل أكثر من سبعين عاماً.
وفي عام ٢٠١٧ قامت فرنسا، وبشكل مفاجئ لنا جميعاً، بتوجيه الضربة القاضية عندما دفعت بوزيرة الثقافة الفرنسية السابقة أودري أزولاي للترشح لرئاسة منظمة اليونسكو، ونجحت في الانتخابات. أعقب هذا الانتصار الفرنسي بقليل الانسحاب الأمريكي من منظمة اليونسكو «بسبب انحيازها ضد إسرائيل»، فخلت الساحة اليونسكيّة لطغيان الوجه الثقافي على ما سواه، لتتحول اليونسكو إلى بيت خبرة عالمي في «القوة الناعمة».
المملكة العربية السعودية لم تكن غافلة عن استشعار هذا التحول مبكراً، والاستثمار سريعاً في اندفاعات قاطرته قبل أن يزدحم أو يتباطأ. فكان الدخول في لائحة التراث العالمي لأول مرة في عام ٢٠٠٨، ولم يأت عام ٢٠١٨ إلا وقد سُجّلت خمسة مواقع آثار سعودية في اللائحة العالمية، بالإضافة إلى تسجيل مجموعة من العناصر الفردية أو المشتركة في لائحة التراث الثقافي الشفوي.
تُوّج هذا الوعي السعودي بتبدّل الأولويات في اليونسكو، بصدور القرار السامي مؤخراً بنقل ارتباط وأعمال (اللجنة الوطنية للتربية والثقافة والعلوم) من وزارة التعليم التي ظلت طوال ٥٥ عاماً المشرفة على أعمال منظمات اليونسكو والإيسيسكو والأليكسو، لتصبح الآن تحت مظلة وزارة الثقافة، وليصبح أول ثمار الحاضنة الجديدة للمنظمات الدولية هو الفوز الكاسح بعضوية المجلس التنفيذي ممثلةً بوزير الثقافة الأمير بدر الفرحان آل سعود، ثم بعد ذلك بأسبوع واحد فقط تحقق الفوز السعودي الأول بعضوية لجنة التراث العالمي.
إن حصد السعودية لعضوية المجلسين الأكثر أهمية ونفوذاً في اليونسكو (المجلس التنفيذي ولجنة التراث) يُثبت بأنها تعي تحولات المزاج العالمي، وتواكب النمو المتصاعد للقوة الناعمة في هذا العالم «الجديد».
* المندوب الدائم للسعودية لدى اليونسكو، سابقاً